نشر الرقم الوطني واستهانة الدولة بخصوصية المواطنين

انتشر في الأعوام الأخيرة حول العالم، مصطلح أحدث ضجيجا صاخبا؛ وهو سياسات الخصوصية، وسجلات بيانات المستخدمين الهائلة، خصوصا من فيسبوك والشر…
خصوصية الرقم الوطني

انتشر في الأعوام الأخيرة حول العالم، مصطلح أحدث ضجيجا صاخبا؛ وهو سياسات الخصوصية، وسجلات بيانات المستخدمين الهائلة، خصوصا من فيسبوك والشركات العملاقة، والتي تملك بيانات مليارات على الكوكب.

فحتى كتابة هذا المقال (إحصائيات الربع الأوّل من عام 2020) بلغ عدد سكّان كوكب فيسبوك 2.6 مليار مستخدم، أما متجوّلو جوجل بمختلف خدماتها فهو 1.5 مليار مستخدم، وجلهم بشرٌ حقيقيّون ومستخدمون مختلفون.

هذه الحياة الرّقميّة، والحجم الكبير جدا من البيانات، والوعي المتزايد للمستخدمين في دول العالم الأوّل، جعلت النّاس تجبر هذه المؤسّسات الضخمة والشركات، على تعديل سياسات الخصوصيّة، وخوض حرب كبيرة – لا تزال مستمرة – في سبيل عيش رقمي آمن.

أمّا في دول العالم الثالث، وتحديدا في درّة المتوسّط دولة ليبيا، العظمى سابقا والحرّة حاليّا، فالأمر مختلف ومتخلف في وقت واحد.

فالحديث هنا ليس عن خصوصية بيانات وجودك الرقميّ، التي لا يأبه بها الكثيرون، ولا عن غياب نصّ قانون واضح ومعاصر حول الجرائم الإلكترونيّة، وغياب أصلا سلطة لتنفيذه؛ ولكن نتحدّث عن نشر الدولة نفسها بمؤسّساتها المختلفة بيانات هامّة وغاية في الخصوصيّة لمواطنيها عبر الإنترنت؟ تصوّر!

كامبريدج أنلاتيكا
كامبريدج أنلاتيكا

حقي في الخصوصية

ماهي الخصوصيّة؟ ببساطة، هي كلّ شيء تعتبره خاصّا بك – مهما صغر أو كبر – ولا تودّ غيرك الاطلاع عليه – لأي سبب كان – إلا بإذنك.

في العالم الرقمي، لك أن تتخيّل عواقب أن يعلم متجرٌ ما/جهة ما/شخص ما، كمية الأموال التي في حسابك، أو يعلم محتويات ملاحظاتك في هاتفك، أو صورك أو يستطيع سماعك في منزلك وسيّارتك، ومعرفة أين تذهب وما الذي تفعله؟

فهذه حياتك، وهذه تصرفاتك، ومن حقك أن تعلم بها وحدك دون غيرك، أيّا كان، شركات أو أفرادا، وألّا تباع بياناتك أو تشترى أو تستخدم، ومن حقك حذف كلّ محتويات وجودك الرقمي، في أي لحظة تشاء.

سيّما وأنّ هذه البيانات مهما كانت صغيرة وتراها لا قيمة لها، قد تستخدم ضدّك، وأحيانا لتمرير فكرة أو تضليل رأي وتحقيق ربح، ولنا في قضيّة/فضيحة Cambridge Aanalytica واستخدام الذكاء الصناعي في التأثير على المصوّتين في الانتخابات الأمريكيّة (إعلانات ممنهجة) خير تنبيه وتحذير، ومثال.

واليوم تعد الخصوصية حقا من حقوق الإنسان في بعض دول واتحادات العالم، مثل: الاتحاد الأوروبي، أستراليا، أمريكا، كندا وبريطانيا وغيرهم.

حقي في بياناتي

الاتحاد الأوروبي كان من أوائل من سنّ قوانين تحمي بيانات المستخدمين، والذي عُرف لاحقا بـ”اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR” اختصار لـGeneral Data Protection Regulation والتي تمحورت على أربع نقاط أساسيّة، وهي:

  • حق الموافقة والقبول: لا بُدّ من وجود نصّ وبيان صريح، باستخدام بيانات المستخدم وتخزينها، وألّا تستخدم الكلمات التي تحتال على المستخدم أو لا تخبر بوضوح عن كيفية الاستخدام.
  • حق مسح البيانات: من حق المستخدم مسح بياناته متى شاء، ما لم يكن هناك سبب وجيه يمنعه من مسحها، مثل: قرض أو حسابات بنكية أو تاريخ تعاملات مالية، وهو حق أساسي في المسح مع عدم الاحتفاظ بأيّ نسخة سرية، ومسحها في جميع المواقع الأخرى التي تتعامل مع هذا الموقع. وذلك حسب المادة 17 من اللائحة.
  • حق المعرفة: من حق المستخدم معرفة كلّ ما تمّ تخزينه من بياناته واستخدامه وكيفية استخدامه من الطرف الآخر.
  • حق الوصول في البيانات: من حق المستخدم المطالبة ببياناته الشخصية وتنزيلها بصورة بسيطة ومفهومة في أي وقت شاء. حسب المادة 20 من اللائحة.

استحداث قونين ليبية للحماية الرقمية أمرٌ واجب وطارئ

بعد كل هذا التفصيل والتمهيد عن الخصوصية، وأحقيّة الإنسان في بياناته وخصوصيّته، ووجوب أن تكون محميّة بحكم القانون، واعتبار انتهاكها بأيّ شكل من الأشكال فعلا إجراميّا، له عواقبه.

سنعرج لأمرٍ أصبح حرجا في ليبيا وهو غياب القوانين المحدّثة الخاصّة بالتقنية الرقميّة وما يتعلق بها. فبحسب بحثي البسيط، كان آخر قانون يُعنى بالتقنية عام 2010 وهو قانون تنظيم الاتصالات رقم 22. ورغم ذلك، هو قانون لا يزال قاصرا حتى في تاريخ نشره، فما بالك وقد مضى عليه قرابة 10 أعوام، وقفزات ضوئية من التطورات الرقمية؟

والحياة الرقميّة وخدماتها وتقنياتها، في ليبيا اليوم، تطوّرت بشكل كبير وملحوظ، الأمر الذي يُوجب وبشكل عاجل وضروري، سنّ قوانين معاصرة، عدّة، تنظم حياة المواطنين في ليبيا، ووجودهم الرقمي. نقترح منها، على سبيل المثال لا الحصر:

  • قانون حماية المستهلك (الرقمي).
  • قانون حماية البيانات،
  • قانون الجرائم الإلكترونية،
  • قانون حماية الخصوصية،
  • قانون المدفوعات الإلكترونية وغيرها.

وقد علمتُ مؤخرا من خلال إحدى مقالات منصّة «هنا ليبيا» أنّ هناك إجراء وزاريا خاصّا بالجرائم الإلكترونية (ملزم فقط لشرق ليبيا، كونه صادر عن الجهة التنفيذية المعتمدة شرق البلاد حصرا).

يشمل 30 مادة لمكافحة جرائم القرصنة وما يتبعها، إضافة إلى حماية مؤسسات الدولة والدورة المستندية للجهات العامة، إلا أنّه ككلّ القوانين من غير سلطة لتنفيذه. ولكنها بداية جيّدة تحتاج إكمالا وجهدا تثقيفيا موازيا.

نشر الرقم الوطني واستهانة الدولة بخصوصية المواطنين

في تقديري، تعتبر منظومة الرقم الوطني أكبر تطوّر رقميّ تقنيّ مدنيّ حدث في ليبيا.

كما أنّ له أهميّة قصوى إداريّا وأمنيّا وأرشيفيّا. ولكنّ القائمين على المشروع ارتكبوا كوارثَ – إهمالا أو جهلا – ينبغي أن نضع حدا لها، لأنّها قد تطيح بالمشروع الواعد أو لا قدر الله ما هو أكبر من ذلك، خطر تسريب بياناته.

الرقم الوطني: عبارة عن رقم متسلسل. أوّله يحدّد جنس المواطن/ة (1 ذكر/2 أنثى) يليه سنة ميلاده، وعدد المسجّلين في تلك السنة. وتحت هذا الرقم (أو ID) يوجد ملفٌ آليّ لذلك المواطن/ة وبياناته كاملة.

من هذه البيانات المسجّلة: شهادة الميلاد، المخصّصات المالية، أرقام الهواتف، ومستقبلا سيتضمّن السجل الضريبي والمالي والعقاري والتجاري والصحي والإجرامي والأمني والبنكي وحتى DNA.

وفكرة الرقم الوطني قديمة وليست جديدة، بل أطلقتها ليبيا متأخرة نسبيّا. فعلى سبيل المثال لا الحصر: يوجد في أمريكا ما يسمى Social Security Number ويوجد في مصر الرقم القومي، وفي غيرها، وفيه كل ما سبق ذكره وأكثر.

والمفترض أنّ هذا الرقم – كما تفعل باقي دول العالم التي لها نظام مشابه – سرّيٌّ جدٌا ولا يُتاح الدخول إليه إلا لجهات معيّنة وبأذونات مخصّصة ولأغراض محدودة. وكذلك يُمنع منعا باتا نسخه أو إشهاره فهو عالي السريّة ذو استخدامات محدودة.

في ليبيا، كالعادة الأمر مختلف ومتخلف، إذ إطلاق وتفعيل مشروع الرقم الوطني لم يصحبه تثقيف بأهميّة وآليّة استخدامه، وفروقاته عن المستندات الأخرى، سواء للعاملين في المشروع أو الجهات الرسميّة أو المواطنين.

ومنذ عام 2012 أصبحت ورقة الرقم الوطني من أكثر المستندات شيوعا، وأضحت مطلوبة في كلّ شيء مهما كبر أو صغر، ونتيجة لذلك، أصبح الناس يتهاونون في استعماله ونشره بل بعضهم ينسخ نسخا كثيرة ويوزعها تحسبا لأي احتياج طارئ! مهزلة.

والأدهى والأمرّ من ذلك كلّه، أصبح الرقم الوطنيّ يُنشر على الإنترنت جهارا نهارا، من قبل مؤسّسات الدولة نفسها، من ملفات جواز السفر، وقرعة الحجّ وقرارات التعيين، وطلبة الجامعات، ولا يجد أيّ موظف في جهة ما، حرجا في نشر الأسماء مقرونة بالرقم الوطني بكل سهولة ويسر.

ومن أكثر الأمثلة كارثيّة ما حدث في أكتوبر من عام 2019 من نشر 10 بنوك لـ”أسماء وأرقام حسابات مواطنين مع القيم المالية لحساباتهم الماليّة مقرونة بالأرقام الوطنية لأكثر من 10 آلاف زبون“ والمفترض أنّ هناك قضيّة رفعت فورا ضدّهم.

ولكن لحظة، بعد استسهال نشر الرقم الوطني والبيانات المتعلقة به، ما الكارثة القادمة؟

يوجد مكان مظلم، سيء السمعة على الإنترنت، ولا يُنصح بالدخول إليه، وهو DARKWEB وفيه يحدث ما لا يخطر على بالك من جرائم إلكترونية، تصل للقتل وإشعال الحروب. هناك تباع وثائق يستخدمها الكثير من المجرمين والمخترقين في العالم، كوثائق شخصية لهم. مثل: جوازات السفر ورخص القيادة وغيرها.

إن استمرّ نشر الرقم الوطني ونزيف التسريبات في ليبيا، وعدم تجريمه ومنعه من طرف الحكومة أو الدولة عموما، هل تتخيّلون حجم العواقب الكارثيّة؟

مواطنون لم يخرجوا من البلد نهائيا عليهم أحكام، تأشيرات سترفض، ديون متراكمة، تحقيقات غيبيّة، وكل ما لا يخطر على بال، حينها ستفقد الدولة أي سلطة لها على المواطنين، ولن يثق المواطن في استئمان الدولة على ماله وصحته وغذائه وأمنه وحياته.

حقي أن أعيش حياة رقمية آمنة

من حقّ المواطنين العيش بحرية رقمية مع ضمان سلامة بياناتهم. وفي حال حدوث أيّ انتهاك أو تهديد بالخطر، من حقّنا أن نشكو، وأضعف الإيمان قم بالتبليغ – مثلا في الفيسبوك – عن منشورات الجهات التي تنشر بيانات عنك ولو حتى اسمك كاملا فقط، ولا تدعه يمر سدى.

 

تم نشرها لي في 14 يوليو 2020 “هنا ليبيا

https://hunalibya.com/digital-life/10225/


أمين صالح
© جميع الحقوق محفوظة ، مدونة أمين صالح.